عدد الرسائل : 8097 العمر : 54 العمل/الترفيه : محاسب admin : 3 نقاط : 19239 تاريخ التسجيل : 19/11/2007
موضوع: الكنز الذي وجب توزيعه الثلاثاء 23 ديسمبر 2014, 7:43 pm
الكنز الذي وجب توزيعه
يوحنا شاب في العشرين من عمره، أحس بصوت الله داخل قلبه، داعياً إياه إلى هدفٍ سامٍ. عرض رغبته الحسنة على أبيه الروحيّ، وبعد حصوله على بركته وتشجيعه، انطلق نحو الجبل المقدس آثوس. قادته قدماه إلى منطقة "كاتوناكيا " في الجهة الجنوبية من آثوس. هناك حيث الصخور العارية من الأعشاب وقليل من أشجار الصنوبر الخضراء تضفي جمالاً على المنظر، ونحو الأسفل بستمائة متراً يُطل البحر بهديره اللامتناهي .
كانت لديه الرغبة أن يصبح راهباً عند الأب نيوفيتوس أحد الآباء النساك، الذي كان ينسك في قلاية رقاد السيدة العذراء. حالما وصل يوحنا إلى مسكنه الجديد، أخبر الأب نيوفيتوس بأمرٍ هام جداً :
"- أيها الأب، قبل قدومي إلى هنا، كنت قد جمعت مبلغاً جيداً من المال، الذي سنحتاجه بالتأكيد، ولهذا أحضرته لأسلمك إياه، إنه ثلاثمائة ليرةً ذهبيةً " .
حالما سمع الأب هذا الكلام اختفت الابتسامة عن وجهه .
"- ما الذي ستفعله بالنقود هنا؟ قلت لي إنك تريد أن تصبح راهباً، لكن هذا الذي تحمله سيكون عائقاً في طريقك! "
"- لكن ألن نقدم نقوداً للفقراء؟ كيف سنقوم بأعمال الإحسان؟ "، أجاب يوحنا ملاحظاً معارضة الأب.
"- لا تنس يا بني أن ذريعة الإحسان هي بداية الجشع وحب المال، ألا تتذكر الأرملة الفقيرة في الإنجيل، حصلت على الفردوس بفلسين فقط، لا بأموال طائلة، الفلسين اللذين قدمتهما من حاجتها ".
"- نعم لكن هل سنبقى بدون نقود؟ ألن ينقصنا شيء؟ " أصرّ يوحنا على رأيه.
"- كل المسيحيين، وخاصةً الرهبان، يسلمون أمورهم إلى عناية الله. مهما ملكت من أموالٍ طائلة لن تكفيك إن لم تكن لديك ثقة بالله. ثم أكمل الأب: "لكي أقبلك هنا يا بني وزع أولاً هذه النقود كلها، ابحث في الجبل المقدس عن فقراء وأعطهم المال وخذ منهم ورقة إثبات على ذلك، وعندما توزعها كلها وتأخذ البراهين، عد إلى قلاية السيدة العذراء. بدون أن تفعل هذا لا أستطيع قبولك هنا، أتوافق يا بنيّ؟ "، سأله منتظراً إجابته .
انزعج يوحنا كثيراً، عندما ترتب عليه أن يخسر كنزه الصغير، لكن رغبته الشديدة في الحياة الرهبانية كانت أقوى وجعلته يوافق.
"- حسناً يا أبتِ"، قال هذا آخذاً بركة أبيه، ومنطلقاً ليوزع المال.
"إنه أمر سهل جداً"، حدث نفسه بينما كان يبتعد عن القلاية. "قريباً سأوزعها في وقتٍ قصيرٍ كلها وأعود عند المساء إلى أبي". وهكذا بدأ يتقدم بخطوات واثقة متأملاً بهذه الأفكار.
بعد قليل التقى عند مفترق الطرق بأحد الرهبان:
"- ألديك حاجة يا أبانا؟" قال له: "خذ قليلاً من هذه النقود واشتر حذاءً جديداً ".
توقف الراهب مذهولاً ورفع عينيه قليلاً وأجابه:
"- لدي حاجة للتوبة يا بني، وليس للنقود! ".
تعجب يوحنا، حياه وأكمل طريقه. التقى بعدها براهبٍ آخر:
"- يا أبانا، كما رأى لديك حاجة للنقود، خذ قليلاً منها أرجوك، أعطها للفقراء إن أردت "، قال هذا وأخرج من محفظته حفنةً من الليرات الذهبية. أجابه الراهب:
"- لا تنس يا بني، أن يهوذا بهدف مساعدة الفقراء، احتفظ بالنقود، لكن أرأيت إلى أين أوصله الشيطان الماكر؟ ".
"- أ..أ..أنا... "، أراد يوحنا أن يبرر كلامه، لكن الشيخ قاطعه قائلاً: "سامحني"، وتابع مسيره.
التقى يوحنا في طريقه بالعديد من الرهبان، كان الفقر يبدو على جميعهم، لكن أياً منهم لم يقبل الإحسان. كان يوحنا قد انتبه أنه بقدر ما كانت القلالي ورهبانها بحالةٍ فقيرةٍ وبائسة، بقدر ما كانوا لا يعطون أهمية للنقود. وهكذا مر اليوم الأول دون أن يوزع شيئاً، ومثله الأيام التالية، ويوحنا لا يزال يحمل كنزه الصغير، إلى أن بدأ يفقد الأمل!
"- اعتقدت أنه من السهل توزيع هذه النقود "، قال يوحنا لراهب التقاه على الطريق المؤدي إلى اللافرا.
-"هذا متوقع يا أخي"، أجابه الراهب الذي كان ينقل بعض الخبز اليابس لأحد النساك المسنين. "لقد أتيت بهذه الحمولة إلى المكان غير المناسب. نحن هنا، لا يهمنا الغنى فعندما ستأتي ساعتنا، سنترك كل هذه الأشياء هنا على الأرض، لن نقف أمام عرش الله ومعنا هذه الليرات، إنما ستكون معنا الفضائل والجهادات وأعمال المحبة ".
"- معك حق يا أخي"، وافق يوحنا وأكمل طريقه، لكنه بدأ يضطرب، لقد حدثه كل الآباء والنساك الذين التقاهم عن الجهادات والفضائل والغنى الروحي، الذي يجب على كل إنسان أن يتحلى به، بينما كان هو يحاول جعلهم يأخذون شيئاً بعيداً كل البعد عن اهتماماتهم. شعر أنه في موقفٍ محرجٍ، لكن ما الذي يستطيع فعله؟ عليه توزيع النقود!
صلّى بحرارةٍ طالباً من الله مساعدته ليجد حلاً لمشكلته. فجأةً، لمعت في ذهنه فكرة لا بد أن تساعده وتجعل الرهبان يوافقون على أخذ المال منه.
"- الشكر لله! "، هتف بصوتٍ عالٍ. "هذا هو الحل، كان علي أن أطرح الموضوع بهذا الشكل"، وعاد يسير فرحاً. وصل إلى إحدى القلالي حيث كان الرهبان يعملون في حقلهم الصغير.
"- باركوا"، حياهم يوحنا.
"- ليباركك الله، تعال استرح قليلاً ".
"- أرجوكم يا أخوتي أن تساعدوني! "، قال لاهثاً من مشقة المسير. "أحتاج أن تأخذوا مني بعض النقود، ليس لأنكم بحاجة إليها، لكن لكي تساعدوني. عليّ توزيعها كلها مع إثباتٍ، لكي يقبلني الأب نيوفيتوس تلميذاً لديه، وإلا فلن أستطيع البقاء عنده، وسأعود إلى العالم، إلى خطاياي ".
صمت الرهبان متفكرين عند سماعهم كلام يوحنا، ثم اقترب منه المتقدّم وقال له:
"- ليكن مباركاً. بما أنك واقع في هذا الموقف، أعطنا ليرةً واحدةً " .
"- ماذا! ليرةً واحدةً فقط؟ "، تفاجأ يوحنا، "كيف سأوزعها هكذا يا أبي؟ "، سأل واليأس على وجهه.
"- الله سيساعدك يا بني، لا تقلق"، هدأه آخذاً منه الليرة، "هنا واحدة وهناك أخرى وستفرغ محفظتك، لا تفقد الأمل، سترى كيف أنك بعد قليلٍ ستعود إلى الأب نيوفيتوس ".
وبما أن رغبته كانت صادقةً، بدأ يوزع رويداً رويداً، كنزه الصغير ويجمع الإثباتات. وحالما أعطى الليرة الأخيرة رمى المحفظة في النهر بارتياحٍ وعاد أدراجه. وأخيراً، وصل منهكاً، لكن بفرحٍ شديدٍ، إلى قلاية رقاد السيدة العذراء حاملاً البراهين في يده. دق باب قلايته المحبوبة.
"- أهلاً بك"، رحب به الأب فرحاً، "تعال اجلس لترتاح قليلاً، بعد قليلٍ سنرتل مديح العذراء وبعدها تروي لي مغامراتك ".
كانت قد مرت منذ ذلك الوقت أربعة أشهرٍ كاملة، زار يوحنا خلالها كل زاويةٍ في الجبل المقدس، تحدث مع العديد من الآباء الروحيين والنساك وجمع الكثير من حكمة أقوالهم وخبراتهم. تعجب من تقشفهم وتواضعهم ومن الفضائل العديدة التي تزينوا بها. إنه بالتأكيد لن ينسى أبداً الصعوبات التي واجهها في الجبل المقدس إلى أن استطاع توزيع الثلاثمائة ليرة الذهبية .