لما كان الأب المذكور يطوف بأنحاء المدينة والبلاد التابعة لها في ابروشيته في كل سنة للافتقاد الشعب، وبينما هو يطوف في تلك البلاد في إحدى جولاته السنوية، نزل في بيت أرخن كبير، وكان ذلك الأرخن الكبير يباشر أعمال حاكم تلك البلاد. وفي مدة ضيافة الأرخن للأسقف لم يتوجه إلى مقر عمله ليباشر أعمال الحاكم كالعادة لكونه لم يرض أن يترك الأب الأسقف في ضيافته ويمضي ليباشر عمله. ولما توجه الأرخن بعد ذلك لعمله عاتبه الحاكم قائلاً: " لماذا في ظرف ثلاثة أيام لم تباشر عملك ولم تحضر؟ " فأجاب الأرخن: " يا سيدي كان أبونا الأسقف حاضراً عندي ولذلك لم أستطع الحضور " . وفي ذلك الوقت كان جالساً مع الحاكم عالم، فلما سمع هذا العالم كلام الأرخن مع الحاكم قال العالم للحاكم: " سيدي أعطني الأمان لأبدي رأياً".فأجاب الحاكم قائلا له: " أعطيناك الأمان أن تتكلم بما خطر لك. " أجاب العالم قائلاً له يا سيدي إنني سألت كثيراً وبحثت عن اعتقاد النصارى ودينهم فلم أهتد إلى أحد يقنعني عن حقيقة دينهم، فإذا راق لمولانا الحاكم أن يعطيني إجازة لأتوجه إليه وأتكلم معه عن عقيدتهم وحقيقة دينهم."، فأجاب الحاكم وقال له: " امض إليه وخذ معك عدة رجال من دولتي وتكلم معه كما تريد". فأخذ ذلك العالم المذكور أربعة من الجند ومقدم الحاكم وصحبته خمسة آخرون غيره مع ذلك الأرخن الكبير وتوجهوا جميعاً إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الأب الأسقف. ولما دخلوا بين يدي الأسقف سلموا عليه، وبعد أن جلسوا هنيهة، بدأ العالم وجعل كلامه لذلك الأرخن قائلاً له: " لماذا لم تجلس بالقرب منا، وقد جلست بعيدا، تعال قربنا وعرفنا من تعبد؟". أجاب الأسقف وقال لذلك العالم: " يا حضرة العالم إن كلامك هذا ما هو إلا لنا!". أجاب العالم وقال: " بالحق إني ما تكلمت إلا لأجل حضرتكم وقصدت إثارة هذا الموضوع لمناسبة حضوركم لكي أعرف حقيقة دينكم لأني أجد النصارى يعتقدون بإله واحد ثم يقرون في ذات الوقت بثلاثة آلهة ويقولون الآب والابن والروح القدس، ويقولون بل ويعتقدون أن الآب إله والابن إله والروح القدس إله. ثم يغيرون الحديث قائلين: أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، ونحن يا أسقف عندنا وعند كل العالم أن الواحد غير الثلاثة والثلاثة غير الواحد، ولم نسمع قط في كتب الفلسفة أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة إلا منكم! وتقولون بل وتعتقدون أن الآب غير الابن، والابن غير الروح القدس، والروح القدس غير الآب والابن! ولفظة (غير) هي في اللغة إضافة، ودخول الإضافة هي افتراق. ثم بعد ذلك تقولون: أن الآب والابن والروح القدس جوهر واحد، إله واحد، رب واحد، سلطان واحد، فعل واحد يصدر عن الثلاثة. ولم يتهيأ لي ذلك أنه اعتقاد حقيقي بل قولي أن النصارى قليلوا الحساب لكونهم لم يعرفوا حد الواحد من حدود الثلاثة لأن معنى الثلاثة غير الواحد، ولم نسمع قط أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد". ولما انتهى العالم من سؤاله أجاب الأسقف الجليل قائلاً له: " يا عالم، إن أردت الكلام في هذا الموضوع السامي الجليل الخطير فأوسع عقلك ولا تجعل للغضب سبيلا إليك، ليصفوا ذهنك وتستوعب ما أنا متكلم به معك عن حقيقة اعتقادنا". أجاب العالم وقال للأب الأسقف:" لك ذلك يا جناب الأسقف لأني أريد ذلك وغرضي أن أتحقق من اعتقادكم. " حينئذ أخذ الأسقف في الشرح عن اعتقاد النصارى في التثليث والتوحيد قائلاً: " يا عالم. إني أسألك: هل تعتبر أن الله ذات موجود أم غير موجود؟ " أجاب العالم وقال: " إني إن قلت أن ذات الله غير موجودة فقد نسبت إلى الله العدم، لأن كل ما هو غير موجود ينسب إلى عدم الوجود. وإني أقر أن ذات الله موجودة دائمة البقاء". قال الأب الأسقف: " يا عالم. ماذا تقول عن ذات الله الموجودة، هل هي حية أم عديمة الحياة؟". أجاب العالم: " يا أسقف إن كل شيء موجود غير حي فهو جماد غير متحرك وإني أقر وأعتقد أن ذات الله حية معطية الحياة لكل حي". قال الأب الأسقف: " يا عالم.ماذا تقول عن ذات الله الموجودة الحية هل هي ناطقة أم غير ناطقة؟". أجاب العالم: " أن كل شيء موجود حي غير ناطق فهو حيوان ناهق، فإن قلت أن ذات الله غير ناطقة، فقد دخلت في باب الكفر وصيرت ذات الله كحيوان ناطق، وحاشا لله من ذلك، لكني أعترف وأعتقد أن ذات الله الحية ناطقة، وإلا لما كان يوجد من المخلوقات من هو حي ناطق كالملائكة والبشر ". قال الأب الأسقف: " يا عالم. إذن ماذا تقول عن ذات الله، هل هي النطق ؟ ، هل هي الحياة ؟أم هي غير النطق والحياة. أم تقول أن النطق غير الذات والحياة، وأن الحياة غير الذات والنطق؟" أجاب العالم: " يا أسقف. نحن نعرف من العلم والمنطق أن الذات غير النطق والحياة. وأن النطق غير الذات والحياة. والحياة غير الذات والنطق، ونعرف كذلك أن الذات علة للنطق والحياة، والنطق والحياة معلولين من للذات". قال الأب الأسقف:" يا عالم. ماذا تقول عن الذات؟. ، هل هي والدة للنطق والنطق مولود منها. أم النطق والد للذات والذات مولود من النطق، وماذا تقول عن الحياة؟. هل هي مبعوثة من الذات والذات باعثة لها. أم هي باعثة للذات والذات مبعوثة منها؟ " أجاب العالم وقال: " إن العقل والشرع يقر لنا على أن الذات علة للنطق والحياة. وأن الذات والد للنطق وباعث للحياة، وأن النطق مولود من الذات والد له، وأن الحياة مبعوثة من الذات وأن الذات باعثة للحياة ". على أثر ذلك انتقل الأسقف إلى النتيجة الحتمية من هذا البحث وقال: " يا عالم. عندنا وعندكم وعند جميع الطوائف إن الوالد لمولود يسمى أباً لذلك المولود، والمولود يسمى ابنا للوالد له، والمنبعث من شيء يسمى روحاً له. وبعبارة أخرى نقول: أن الذات والد للنطق فهو أب حيث أنه والد، وقلنا إن النطق مولود من الذات فهو ابن حيث أنه مولود من الذات. وقلنا إن الحياة روح للذات حيث أنها منبعثة منها. " وقال الأب الأسقف: " فعرفّني يا عالم. ماذا تقول عن الذات والنطق والحياة. هل الذات قائمة بالنطق أم بالحياة أم بذاتها. وهل النطق قائم بالذات أم بالحياة أم بذاته. وهل الحياة قائمة بالذات أم بالنطق أم بذاتها؟ " أجاب العالم وقال:" يا أسقف. لماذا تغالطني في الكلام؟ . أنا أقول وأعتقد أن ذات الله قائم بذاته ناطق بخاصية النطق حي بخاصية الحياة، وأن النطق قائم بالذات ناطق بخاصيته وحي بخاصية الحياة، وأن الحياة قائمة بالذات ناطقة بخاصية النطق حية بخاصيتها. " ومن تلك الإجابة خرج الأب الأسقف بالنظرة المسيحية في الثالوث المقدس وقال للعالم: " هذا هو قولنا، وبعينه هو اعتقادالقدس.النصارى. إن الذات والد للنطق فنقول هو الآب، والنطق مولود من الذات فنقول هو الابن، والحياة منبعثة من الذات فنقول هي الروح القدس . وبعبارة أخرى تقول: أن الآب قائم بذاته، ناطق بخاصية الابن الذي هو النطق، وحي بخاصية الحياة الذي هو الروح القدس. وأن النطق قائم بخاصية الذات الذي هو الآب، ناطق بخاصيته، حي بخاصية الحياالابن،هو الروح القدس. وأن الحياة قائمة بخاصية الذات الذي هو الآب، ناطقة بخاصية النطق الذي هو الابن ، وحية بخاصيتها الذي هو الروح القدس . وهذا هو قولنا الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ".
أجاب ذلك العالم وقال:" صدقني يا أسقف أنك أظهرت الآن أن ذات الله موجودة حية ناطقة، وعرفتني أن الذات علة للنطق والحياة. وأن النطق مولود من الذات والحياة منبعثة من الذات وأن الذات والد للنطق وباعث للحياة. فبهذا تحققنا أن الذات تدعونه الآب لكونه والد للنطق، والنطق تدعونه الابن لكونه مولود من الذات. والحياة تدعونه روحاً لكونه منبعث من الذات.
بهذا تحقق أن الإله جوهر واحد أعني ثلاث صفات وإن شئت ثلاث خواص تعني الذات والنطق والحياة. وإن شئت الأبوة والبنوة والانبعاث أعني الآب والابن والروح القدس.
فالآن تحقق عندي أنكم معتقدون بالله اعتقادا حقيقياًُ. ولكن عرفني يا أسقف ما الذي كان يحوج إلى هذا التفتيش كله في ذات الله تعالى، والبحث من الذات الإلهية".
أجاب الأسقف:" يا عالم. أحوجنا إلى ذلك بل أحوج الآباء والعلماء والقدماء كثرة الهرطقات التي علّم بها المفسدون لقلوب أهل العالم وشيوع هذه الهرطقات في الأرض كلها من قديم الزمان. حيث أن قوماً قالوا عن ذات الله خاصية واحدة ووجه واحد. ونسبوا لله عدم النطق والحياة ( أي بغير صورته الحقيقية التي خلقنا بها وعلى مثالها ).
وآخرون قالوا أن نطق الذات المدعو ابن الله مخلوق. ثم قال آخرون أن حياة ذات الله الذي هو الروح القدس محدث وصيروا في الجوهر خالق ومخلوق.
وقال آخرون إن في الله ثلاثة آلهة ويدعونهم عظيم وأعظم والأعظم.
وقال آخرون أنهما إلهان من السماء ويدعون أحدهم إله النور والآخر خالق الظلمة.
لذلك لما رأى آباؤنا وعلماؤنا كثرة هذه الأباطيل والهرطقات اضطرهم الحال إلى البحث في وحدانية الله وتثليث أقانيمه حتى أمكنهم بنعمته تعالى أن يحققوا لنا معتقدنا هذا الذي شرحناه لكم تحقيقاً منطقياً مقبولاً عقلاً ونقلاً وشرعاً "